نحن والحزام والطريق والقطار التركيّ العظيم
مرّ خبر بدء العمل بسكة القطار الجديدة، التي تربط الصين بمرافئ تركيا، مرور الكرام في غالبية وسائل الإعلام اللبنانية والعربية. وقد اكتفى مَن نقل الخبر بتفصيل سينمائيّ عن مرور “القطار التركي العظيم” بقارتين وبحرين وخمس دول، فيما أبعاد الخبر وعلاقته بوظيفتنا الاقتصادية تستوجب التوقف عنده.
فطوال سنوات كانت تعبر وسائل الإعلام بعض الأخبار السريعة عن أرقام مالية خيالية ترصدها حكومات الصين المتعاقبة للاستثمار في مشروع “الحزام والطريق”، الذي أعلن عنه الرئيس الصيني شي جين بينغ في نهاية عام 2013؛ إلا أن تعامل اللبنانيين عموماً والرسميين خصوصاً مع هذا المشروع، بقي دائماً أقل من ثانويّ بكثير. وحتى حين أعلنت السفارة الصينية في لبنان في 17 حزيران الماضي، عن استعدادها لتحديث الموانئ وبناء ثلاثة محطات طاقة جديدة وإعادة تأهيل سكة الحديد، لم يشعر أحد من المسؤولين اللبنانيين أن عليه الصعود في أول طائرة متجهة إلى بكين لسؤالها عما يمكن فعله فعلاً.
علاقات الصين بدول الخليج
ما سيقفز إلى الذهن فوراً هنا هو الضغوطات السياسية لمنع هذا الأمر طبعاً، لكن فعلياً كل ما يشاع عن ضغوط كونية هو مجرد أكاذيب حتى إشعار آخر. فلو كانت هذه الضغوطات حقيقة، لكثّفتها الولايات المتحدة على كل من الإمارات والسعودية وإسرائيل قبل لبنان.
فها هي الإمارات تشرّع في إنشاء مجمع “سوق التجار” الصيني على مساحة 60 مليون قدم مربع في قلب دبي، حيث تفعل الامارات كل ما يلزم لتكون محطة عالمية محورية في طريق الحرير. وكانت الامارات قد وقّعت العام الماضي عبر رسميينها اتفاقيتين عاجلتين مع الصين: في الأولى تستثمر إحدى الشركات الصينية 2.45 مليار دولاراً لبناء مخازن في دبي، وفي الثانية يستثمر صندوق الاستثمار العربي الصيني مليار دولار لإنشاء مشروع “سلة الخضراوات” في دبي؛ حيث سيتم تشييد مجمعات ضخمة ومخازن مبردة لاستيراد ومعالجة وتغليف وتخزين وإعادة تصدير المنتجات الزراعية والحيوانية والسمكية.
أما السعودية، فذهب ولي عهدها إلى بكين ليسأل كيف يمكن لمملكته أن تلعب دوراً اقتصادياً أكبر بين آسيا وإفريقيا وأوروبا. ولم تلبث الحكومة السعودية أن أسست شركة طريق الحرير السعودية، لتسويق التجارة البحرية من ميناء جازان وجذب الاستثمارات الصينية.
وتطول القائمة طبعاً لتشمل الكثير من الدول الصديقة جداً للولايات المتحدة، دون أن تؤدي صداقاتها هذه إلى تفويت الفرص الاقتصادية.
اتفاقيات لبنان-الصين: خيانة عظمى لأميركا؟
أما نحن، فلا تكاد تذكر الصين إلا ويُصوّر الأمر كأنه خيانة عظمى أو عمل عدائي ضد الولايات المتحدة، سندفع ثمناً باهظاً جداً إذا أقدمنا عليه. من يصوّر الأمور على هذا النحو هو من لا يريد أن يفعل شيئاً؛ فمن الواضح وعلى جميع المستويات أن هناك طبقة كاملة من المسؤولين الذين لا يعنيهم إيجاد حلول أو بدائل أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه. مع العلم أن إسرائيل بكل ما تمثله من تماهي وشراكة وصلات مع الولايات المتحدة، تفعل كل ما يلزم اليوم لتسريع استفادتها من المشروع الصيني عبر بناء سكة حديد تصل بين ميناء إيلات وإسدود لربط البحر الاحمر بالبحر المتوسط، وتوسيع موانئها.
أما في الجانب الآخر، فلا أولوية اقتصادية عند العراق تتقدّم على التفاهم مع الصين، حيث تفعّل بغداد كل ما يلزم لإنشاء ميناء الفاو الكبير، آملة بأن يكون مركزاً رئيسياً في طريق الحرير الصيني، بموازاة تنفيذ القناة الجافة لربط ميناء الفاو بتركيا فأوروبا، في ظل حديث الحكومة العراقية عن مردود ماليّ للعراقيين يوازي إيرادات النفط.
ومن العراق إلى إيران، حيث تتداول أرقاماً بـ “مئات المليارات” كاستثمارات صينية مرتقبة في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات الإيرانية، بموازاة الاستثمارات الصينية الكبيرة في بناء السكك الحديدية.
وهنا لا يمكن لأي عاقل أن لا يرى أن ثلاثة من أمبراطوريات العالم القديم هي الصين وروسيا وإيران إضافة إلى تركيا تتجه بخطى واضحة وحثيثة نحو أكبر تكامل اقتصادي ممكن، متجاوزين جميع القيود؛ وهؤلاء لا يمثلون بامتداداتهم ومحيطهم وعلاقاتهم الشرق الذي يصوّره فارس سعيد وأصحابه، بأنّه بلدة تلكلخ على الحدود اللبنانية – السورية أو محافظة الرقة أو أدلب، إنما هو عالم آخر كبير وواسع وغني جداً.
وعليه؛ من يتابع الأخبار المتفرقة منذ بضعة أعوام سيعتقد أنها مجرد “نوستلجي” صينية ومجموعة أحلام يبيعونها لشعوب العالم؛ لكن أسبوع الماضي ثمة قطار كبير محمّل بالبضائع عبر القارات والبحار والبلدان. فماذا ننتظر نحن؟ وماذا نفعل؟ وماذا لدى مسؤولينا أهم من حمل الوعود الصينية والتوجّه على عجل إلى الصين لفعل ما سبق للسعوديين والإماراتيين والإسرائيليين أن فعلوه هناك؟ إذا ما كان التشبه بهؤلاء بالنسبة للبعض أفضل من التشبه بالأتراك والإيرانيين والعراقيين والسوريين.
كنا وما زلنا أمام خيارين: بلد _ جزيرة يعيش على الإستدانة دون تحديد وظيفة اقتصادية منطقية له، ودون إعطاء الأولية للمصلحة الوطنية على كل المصالح الأخرى، وبلد يفهم مكانته الجغرافية ويحاول الاستفادة منها في تحديد وظيفته الاقتصادية معطياً الأولوية المطلقة للمصلحة الوطني.
الغريب أنه ورغم كل النتائج الكارثية للخيار الأول، ما زال هو الخيار المعتمد؛ من جميع الأفرقاء السياسيين دون استثناء، حتى أولئك الذين نسمع أقوالهم فيما يخص الشرق ولا نرى لهم في المقابل أية أفعال.
غسان سعود